الاثنين

فردوس بيد واحدة وخمسة أصابع تتحدى المجرمين

بين أزيز الرصاص ودوي الانفجارات ، هنالك دوما قصص وحكايات ، بعضها تطويه السنوات والأيام ،والبعض الآخر يدون دروسا تعجز عن تدوينها الأقلام ، فردوس كانت في يوم ما حصادا للغم ارضي نال من جسدها ولكنه لم ينل من عنفوانها أنها فتاة بحجم جرح العراق ، هل يتوقع الإنسان الشر قبل وقوعه ؟ مهما كانت الإجابة ففردوس كانت تتوجس خيفة من مجهول يغير مجرى حياتها تصف لنا فردوس أحاسيسها قبل الحادث قائلة : قبل الحادث بيوم واحد طلب منا رئيس قسم البرمجيات في جامعة الموصل أن نتبرع بالدم لضحايا الانفجارات وحدد صنف الدم بــO+) ) وكنت حينها اجهل صنف دمي وكنت ارغب في أن أقوم بواجبي اتجاه أبناء مدينتي ممن كانوا حصادا للانفجارات لا اعرف لماذا وجدت نفسي أقول لصديقاتي يبدو أني يجب أن اعمل تحليلا لأعرف صنف دمي ؟
تصف شعورها في حينها قائلة كان شعورا بان دمائنا التي في عروقنا لابد من تقديم جزء منها شكرا لله على تمام الخلقة والصحة وفي يوم الحادث وبعد خروجي من المحاضرة الأولى علمنا أن أستاذ المحاضرة الثانية اعتذر لإصابته بوعكة صحية فاتجهت الى الأستاذ المشرف على مشروع التخرج كانت الغرفة ضيقة وكنت رفقة اثنتين من صديقاتي ( ربى وفرح ) فطلب مني الأستاذ الجلوس على كرسيه ليتسنى لي العمل بحرية فاعتذرت لأني كنت احترم الأستاذ جدا فمازحني قائلا لا تخافي الكرسي غير ملغم لا ادري لماذا شعرت بخوف شديد رغم أني اعرف انه كان يمزح معي (كلمة ملغم كانت تخيفني جدا منذ أول معرفتي بها بعد الاحتلال ) بعدها اتجهت إلى مقهى انترنيت خارج الجامعة بعد إلحاح صديقاتي كنا نتكلم عن مواضيع عدة عن العراق وعن الموصل كنت أتوسط ربى وفرح ولم نكن قد ابتعدنا أكثر من عشرة أمتار عن الجامعة عندما رأيت دورية للشرطة لا اعرف لماذا توقفت عن الكلام وتسمرت عيناي على سيارات الشرطة ثم أحسست أني ارتفع عن الأرض ثم رأيت يدي مقطوعة حتى أني لا أتذكر سماع صوت الانفجار و رأيت صديقتي فرح على بعد مسافة كبيرة عني وربى بالاتجاه الأخر وقفت ولم أكن اشعر بأي شعور مشيت خطوات سريعة ويدي مقطوعة هناك بدأت اشعر بالألم يتعاظم شيئا فشيئا فلم أجد حلا سوى أن اسجد وأتشهد وأتوسل إلى الله أن يغفر لي ويرحمني وفي تلك اللحظة تخيلت أمي وأبي وهما يقولان لي في الصباح الله يرضى عنك ، لم يحرك الشرطي القريب مني ساكنا اتجاهي واكتفى هو ورفيقه بأبعاد الناس عني بعدها وضعوني في مؤخرة السيارة وكنت أسبح بدمي ولما وصلت إلى المستشفى لم يتقدم احد لإنزالي فتعكزت على آلامي ونزلت وحدي إلى المستشفى ورأيت نظرة الذهول في عيون الممرضات والدكتور الذي صرخ عليهم أين طبيبة التخدير التي لم تستطع أن تتحمل المنظر فأغمي عليها بينما اخذ الطبيب يسألني وهو يحاول إيقاف النزيف أين وقع الحادث ومن معك ونتيجة أي شئ قطعت يدك لكني لم أكن اقدر على الإجابة لأن تفكيري كله يدور حول ردة فعل أمي وأبي قلت له أعطوني موبايل تكلمت مع أخي عرفت أن الخبر قد وصلهم سكت للحظات وهو يصرخ بي كيف أنت هل تتألمين كان منهار تماما فقلت له والألم يتملكني اطلب من أمي وأبي أن يدعوا لي ..
أخذوني إلى غرفة العمليات جاء الطبيب المخدر فقلت له أين الطبيب الذي سيجري لي العملية ؟ هنا رد علي احد الموجودين بالغرفة كانوا متشابهين أو ربما كنت حينها لا أميز بين الوجوه ، فقلت له أرجوك أذا كتب لي الله أن أموت تكلم مع أمي وأبي بهدوء وحاول أن تصبرهما لم يتمكن المخدر مني بسهولة كنت اسمع الطبيب يسأل عن صنف دمي انتهت العملية وأخرجوني إلى غرفة في المستشفى كان الكل ينتظرني وجدت أخي احمد فقلت لأحمد انقطعت يد حبيبتك ؟!
فبدأ يجهش بالبكاء أما أمي فقد كانت بذهول تام بينما بدا أبي متماسكا واخذ يقول : رفعت راسي عاليا الكل يتحدث عن شجاعتك ، لم أتستطع أن امتلك أعصابي وتمنيت الموت هنا جاء الطبيب وقال : فردوس لم أقابل إنسانا بشجاعتك منذ ثلاثون عام وأنا جراح أجريت عمليات لضباط كبار كانوا يصرخون ويبكون من جراحهم بينما كنت مثالا في الشجاعة كلام الطبيب خفف عني كثيرا ، خرج الطبيب سألت أهلي عن فصيلة دمي قالوا o+ لا اعرف لماذا ابتسمت في حينها تذكرت كلامي قبل يوم من الانفجار وتذكرت آلاف الجرحى من العراقيين الذين يحتاجون لهذا الصنف من الدم ولم يجدوه وحمدت الله كثيرا ، وتضيف فردوس مستذكرة : صديقتي ربى كانت أكثر من تأثر لأنها قبل الحادث بثواني كانت تتأبط يدي اليسرى وكانت تقول كيف تجاوزتني الشظية وأصابتك كانت تبكي كلما استذكرت الحادث ، الأيام بعد الحادث بدت متشابهة وأصبحت محط عطف الجميع ، لكن الأيام كانت واعظا جيدا فقد قررت أن أعود للكلية تفاجأ الجميع وفرحوا لان طلاب كليتي لم يلبسوا أثواب التخرج ولم يلتقطوا صور التخرج حيث نحتفل بالتخرج في العراق قبل الامتحانات النهائية ، عندما ذهبت قرروا الاحتفال واحتفلت معهم وكنا جميعا في غاية الفرح مما جعلني أنسى أني بيد واحدة أديت الامتحانات وناقشت مشروع التخرج والحمد لله حققت نتيجة مرضية وان كانت دون السنوات السابقة للحادث لكنها كانت كافية لأصبح خريجة وبيد واحدة ، تكمل فردوس حكايتها قائلة : في غمرة فرحتي بتخرجي لم أكن اشعر أني معاقة ألا عندما كنت أراجع مركز الشرطة والمحكمة لأخذ التعويض الذي تبرعت به أدارة مدينة الموصل كانوا لا يهتمون لي ويتركوني انتظر ساعات وساعات ولم استلم التعويض الموعود إلى تاريخ كتابة هذه السطور والعوض على الله جل في علاه وحاولت أن اجري عملية زرع يد في شمال العراق ولكن المعاملة كانت قاسية وكانوا يسمعوني كلاما جارحا حتى أن احد الأطباء قال : أنت تطلبين المستحيل لأني سألته عن أمكانية الحصول على طرف متحرك كان يتكلم في غاية القسوة فتوسلت له ليريني نموذج اليد التي سأحملها معي ما تبقى من حياتي ، فوجدتها قطعة قبيحة المنظر فقط لا تساعدني للقيام بأي شيء ، ومع ذلك لم يمنحوها لي لأني لا احمل بطاقة تثبت أني من شمال العراق ، تتوقف فردوس بعد أن تحمد الله وتشكره قائلة : لا تعويض ولا يد اصطناعية ، بدأت الأسئلة تحرجني وتضايقني الكل يريد مني أن أعيد لها تفاصيل الحادث ، ولم تكن عائلتي تملك المال الكافي لأجراء العملية خارج العراق و رحلتي مع التعويض المالي الذي لم احصل عليه ما زالت مستمرة ورحلتي مع العلاج الذي لم يكتمل مازالت مستمرة وتلك اليد البلاستيكية التي استكثروها علي في بلدي أصبحت من الأحلام ورحلتي مع الوظيفة كانت متعبة للغاية فبعد موافقة الوزير تقاذفتني أمواج الروتين في مدينتي للحصول عليها بحجة انه لا يمكن أن أكون مبرمجة بخمسة أصابع ويد واحدة فقلت لهم : من أين اجلب الخمسة الأخرى ؟
فقد تخرجت وأديت الامتحانات على الحاسوب وقدمت مشروع التخرج وناقشته بخمسة أصابع ولم تكن الأصابع الخمسة المفقودة عائقا أمامي بينما يعاملني من انتظر منهم بارقة أمل في المستقبل على أني امرأة معاقة لا فائدة منها ، وبعد رحلة مضنية اقتنع المسؤولون أخيرا بقدراتي على البرمجة واستلمت أول راتب في ليلة العيد الفطر المبارك الماضي وأعطيت أهلي جميعهم ( العيدية ) ..

ليست هناك تعليقات: